فصل: فَصْلٌ: صِفَةُ الِاسْتِيلَادِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: صِفَةُ الِاسْتِيلَادِ:

وَأَمَّا صِفَةُ الِاسْتِيلَادِ فَالِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كَالتَّدْبِيرِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ مُتَجَزِّئٌ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَتَكَامَلُ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ التَّكَامُلِ وَشَرْطِهِ، وَهُوَ إمْكَانُ التَّكَامُلِ، وَقِيلَ: إنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ أَيْضًا لَكِنْ فِيمَا يَحْتَمِلُ نَقْلَ الْمِلْكِ فِيهِ.
وَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ فَهُوَ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ.
وَبَيَانُ هَذَا مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَمَةِ الْقِنَّةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ جَمِيعًا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ أُمُّ الْوَلَدِ الْخَالِصَةُ إذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى نِصْفَهَا عَتَقَ كُلُّهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ جَمِيعُهَا بِلَا خِلَافٍ، لَكِنْ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ، وَعِنْدَهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي بَقَاءِ حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ فِي الْبَاقِي لَا بِإِعْتَاقِهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْعَتَاق.
وَلَا ضَمَانَ عَلَى الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي مَوْضِعِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فِي هَذَا الْحُكْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً صَارَ نَصِيبُ الْمُدَّعِي أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَنُصِيبُ الْآخَرِ بَقِيَ مُدَبَّرًا عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ صَارَ نَصِيبُ الْمُدَّعِي أُمَّ وَلَدٍ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ، وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ الْكُلُّ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُدَّعِي، وَتُفْسَخُ الْكِتَابَةُ فِي النِّصْفِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ.
وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: كَحُكْمِ التَّدْبِيرِ أَحَدُهُمَا، يَتَعَلَّقُ بِحَالِ حَيَاةِ الْمُسْتَوْلِدِ، وَالثَّانِي، يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَ مَوْتِهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا ذَكَرْنَا فِي التَّدْبِيرِ وَهُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ وَدَاوُد بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيُّ إمَامُ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ لَا حُكْمَ لَهُ فِي الْحَالِ، وَعَلَى هَذَا تُبْتَنَى جُمْلَةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ؛ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ.
وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَلِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَلَا يَحِلُّ الْوَطْءُ إلَّا فِي الْمِلْكِ، وَكَذَا تَصِحُّ إجَارَتُهَا وَكِتَابَتُهَا، فَدَلَّ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا كَبَيْعِ الْقِنَّةِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أُمُّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَهِيَ حُرَّةٌ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «قَالَ فِي أُمِّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ، أَوْ الْحُرِّيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إلَّا أَنَّهُ تَأَخَّرَ ذَلِكَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ انْعِقَادِ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ، أَوْ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَدَمٌ يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ.
وَرُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَ: إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إنَّ أَوَّلَ مَنْ أَمَرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَنْ أَعْتَقَهُنَّ وَلَا يُجْعَلْنَ فِي الثُّلُثِ، وَلَا يَسْتَسْعِينَ فِي دَيْنٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي الدَّيْنِ وَلَا يُجْعَلْنَ فِي الثُّلُثِ» وَكَذَا جَمِيعُ التَّابِعِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ، فَكَانَ قَوْلُ بِشْرٍ وَأَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: عَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَيْضًا لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَ: كَانَ رَأْيِي وَرَأْيِ عُمَرَ أَنْ لَا يُبَعْنَ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَيْعَهُنَّ فَقَالَ لَهُ عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ: رَأْيُك مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ رَأْيِك وَحْدَك،.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُبَعْنَ فِي الدَّيْنِ، فَقَالَ عُبَيْدَةُ رَأْيُك وَرَأْيُ عُمَرَ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ رَأْيِك فِي الْفُرْقَةِ فَقَوْلُ عُبَيْدَةَ فِي الْجَمَاعَةِ إشَارَةٌ إلَى سَبْقِ الْإِجْمَاعِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ثُمَّ بَدَا لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيُحْمَلُ خِلَافُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى اسْتِقْرَارَ الْإِجْمَاعِ مَا لَمْ يَنْقَرِضْ الْعَصْرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةً بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَكَانَ عَلِيٌّ وَجَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَرَيَانِ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ، لَكِنَّ التَّابِعِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالْإِجْمَاعُ الْمُتَأَخِّرُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا سَبَبَ سِوَى الِاسْتِيلَادِ السَّابِقِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبًا لِلْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ لِمَا بَيَّنَّا فِي التَّدْبِيرِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَيْعِ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّهَا تُسَمَّى بَيْعًا فِي لُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّهَا بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِكَوْنِهَا مُبَادَلَةَ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَمَا كَانَ بَيْعُ الْحُرِّ مَشْرُوعًا ثُمَّ انْتَسَخَ بِانْتِسَاخِهِ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْتَوْلِدِ.
فَنَعَمْ، لَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ حُرِّيَّةٍ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِلْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ التَّدْبِيرِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَوْلِدُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، مُرْتَدًّا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا، خَرَجَ إلَى دِيَارِنَا وَمَعَهُ أُمُّ وَلَدِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ تَتْبَعُ ثَبَاتَ النَّسَبِ، وَالْكُفْرُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ، وَلَمَّا دَخَلَ الْمُسْتَأْمَنُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَقَدْ رَضِيَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ تَصَرُّفٍ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ الثَّابِتَةِ لَهَا بِالِاسْتِيلَادِ لَا يَجُوزُ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالرَّهْنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ تُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْعَيْنِ فَيُوجِبُ بُطْلَانَ هَذَا الْحَقِّ، وَمَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ هَذَا الْحَقِّ فَهُوَ جَائِزٌ؛ كَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالِاسْتِسْعَاءِ وَالِاسْتِغْلَالِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالْوَطْءِ؛ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الْعَيْنِ، وَالْمَنَافِعُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ وَالْأُجْرَةُ وَالْكَسْبُ وَالْغَلَّةُ وَالْعُقْرُ وَالْمَهْرُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنَافِعُ عَلَى مِلْكِهِ، وَكَذَا مِلْكُ الْعَيْنِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ وَهُوَ التَّدْبِيرُ لَمْ يُؤَثِّرْ إلَّا فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ حُرِّيَّةٍ، فَكَانَ مِلْكُ الْيَمِينِ قَائِمًا، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ مِنْهُ تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لَا تُبْطِلُهُ، وَكَذَا الْأَرْشُ لَهُ بَدَلُ جُزْءٍ هُوَ مِلْكُهُ، وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَوِّجَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَمَلَتْ مِنْهُ فَيَكُونُ النِّكَاحُ فَاسِدًا، وَيَصِيرَ الزَّوْجُ بِالْوَطْءِ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، فَكَانَ التَّزْوِيجُ تَعْرِيضًا لِلْفَسَادِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ ذَلِكَ بِالِاسْتِبْرَاءِ، لَكِنَّ هَذَا الِاسْتِبْرَاءَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ كَاسْتِبْرَاءِ الْبَائِعِ، وَلَوْ زَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مِنْ الْمَوْلَى وَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ زَوَّجَهَا وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ وَلَدُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَهُ فِرَاشٌ، وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِرَاشَ لِلْمَوْلَى لِزَوَالِ فِرَاشِهِ بِالنِّكَاحِ، فَإِنْ ادَّعَاهُ الْمَوْلَى وَقَالَ: هَذَا ابْنِي لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِسَبْقِ ثُبُوتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الزَّوْجُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ لَكِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِهِ وَقَدْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: هَذَا ابْنِي، وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ، وَنَسَبُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ يَثْبُتُ مِنْ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ عِنْدَ عَدَمِ الْحُرِّيَّةِ، إلَّا إذَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْحُرْمَةِ، أَوْ زَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ التَّزْوِيجِ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ عِنْدَ عَدَمِ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ وَالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِرَاشًا بِثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا، وَالْوَلَدُ الْمَوْلُودُ عَلَى الْفِرَاشِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْقِنَّةِ أَوْ الْمُدَبَّرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا، وَإِنْ حَصَّنَهَا الْمَوْلَى وَطَلَب وَلَدَهَا بِدُونِ الدَّعْوَةِ عِنْدَنَا، فَلَا تَصِيرُ فِرَاشًا بِدُونِ الدَّعْوَةِ، ثُمَّ إنَّمَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ بِدُونِ الدَّعْوَةِ دُونَ وَلَدِ الْقِنَّةِ وَالْمُدَبَّرَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَرَّزُ عَنْ الْإِعْلَاقِ، إذْ التَّحَرُّزُ لِخَوْفِ فَوَاتِ مَالِيَّتِهَا وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَالظَّاهِرُ أَنْ لَا يَعْزِلَ عَنْهَا بَلْ يُعَلِّقُهَا فَكَانَ الْوَلَدُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الدَّعْوَةِ، بِخِلَافِ الْقِنَّةِ وَالْمُدَبَّرَةُ، فَإِنَّ هُنَاكَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعَلِّقُهَا بَلْ يَعْزِلُ عَنْهَا تَحَرُّزًا عَنْ إتْلَافِ الْمَالِيَّةِ، فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مِنْهُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ، فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ، فَهُوَ الْفَرْقُ- وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
فَإِنْ صَارَتْ أُمُّ الْوَلَدِ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمَوْلَى عَلَى التَّأْبِيدِ بِأَنْ وَطِئَهَا ابْنُ الْمَوْلَى أَوْ أَبُوهُ أَوْ وَطِئَ الْمَوْلَى أُمَّهَا أَوْ بِنْتَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ؛ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي أَتَتْ بِهِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَا وَطِئَهَا بَعْدَ الْحُرْمَةِ فَكَانَتْ حُرْمَةُ الْوَطْءِ كَالنَّفْيِ دَلَالَةً، وَإِنْ ادَّعَى يَثْبُتْ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَصْلًا فَقَالَ: إذَا حُرِّمَتْ أُمُّ الْوَلَدِ بِمَا يَقْطَعُ نِكَاحَ الْحُرَّةِ وَيُزِيلُ فِرَاشَهَا مِثْلَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ مَوْلَاهَا إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ؛ لِأَنَّ فِرَاشَ الزَّوْجَةِ أَقْوَى مِنْ فِرَاشِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَقْطَعُ فِرَاشَ الزَّوْجَةِ، فَلَأَنْ تَقْطَعَ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إذَا زَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِرَاشًا لِلزَّوْجِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَصِيرَ فِرَاشًا لِغَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا ادَّعَى يَعْتِقُ عَلَيْهِ، كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ: هَذَا ابْنِي، وَإِنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَقْطَعُ نِكَاحَ الْحُرَّةِ وَلَا يُزِيلُ فِرَاشَهَا مِثْلَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْإِحْرَامِ وَالصَّوْمِ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ عَارِضٌ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْفِرَاشِ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ أَمَّا النَّفْيُ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَزْلَ عَنْهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا، فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْبَرَ عَمَّا يَمْلِكُ فَكَانَ مُصَدَّقًا.
وَأَمَّا النَّفْيُ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ فَلِأَنَّ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ أَضْعَفُ مِنْ فِرَاشِ الْحُرَّةِ وَهَذَا أَصْلٌ يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْفُرُشَ ثَلَاثَةٌ: قَوِيٌّ وَضَعِيفٌ وَوَسَطٌ.
فَالْقَوِيُّ: هُوَ فِرَاشُ النِّكَاحِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّسَبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ وَلَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ، وَالضَّعِيفُ فِرَاشُ الْأَمَةِ حَتَّى لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ، وَالْوَسَطُ فِرَاشُ أُمِّ الْوَلَدِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّسَبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ، وَيَنْتَفِي مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ بِالتَّزْوِيجِ فَيَحْتَمِلُ الِانْتِفَاءَ بِالنَّفْيِ بِخِلَافِ فِرَاشِ الزَّوْجِ، ثُمَّ إنَّمَا يَنْتَفِي بِالنَّفْيِ إذَا لَمْ يَقْضِ بِهِ الْقَاضِي أَوْ لَمْ تَتَطَاوَلْ الْمُدَّةُ، فَأَمَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ أَوْ تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةُ فَلَا يَنْتَفِي؛ لِأَنَّهُ يَتَأَكَّدُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَا تَطَاوُلُ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ النَّفْيِ إقْرَارٌ مِنْهُ دَلَالَةً، وَالنَّسَبُ الْمُقَرُّ بِهِ لَا يَنْتَفِي بِالنَّفْيِ وَلَمْ يُقَدِّرْ أَبُو حَنِيفَةَ لِتَطَاوُلِ الْمُدَّةِ تَقْدِيرًا، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَدَّرَاهُ بِمُدَّةِ النِّفَاسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ مَوْلَاهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ بِأَنْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ فَوَلَدَتْ وَلَدًا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْأُمِّ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأُمِّ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، هَذَا إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً فِي مِلْكِهِ فَإِنْ كَانَ اسْتَوْلَدَهَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ، ثُمَّ مَلَكَهَا وَلَهَا وَلَدٌ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ بِأَنْ اسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ فَارَقَهَا فَزَوَّجَهَا الْمَوْلَى مِنْ آخَرَ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ مَلَكَهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ وَوَلَدَهَا، صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَلَا يَصِيرُ وَلَدُهَا وَلَدَ أُمِّ وَلَدٍ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: إذَا مَلَكَ مَنْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ ثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا مِنْهُ، فَهُوَ وَلَدُ أُمِّ وَلَدِهِ يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْأُمِّ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَكِنَّهُ لَمَّا مَلَكَهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ بِالْعُلُوقِ السَّابِقِ، وَالْوَلَدُ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَحْدُثُ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّ، فَإِذَا مَلَكَهُ يَثْبُتُ فِيهِ الْحُكْمُ الَّذِي يَثْبُتُ فِي الْأُمِّ، وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِيلَادَ فِي الْأُمِّ وَهُوَ أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ شَرْعًا إنَّمَا تَثْبُتُ وَقْتَ مِلْكِ الْأُمِّ، وَالْوَلَدُ مُنْفَصِلٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالسِّرَايَةُ لَا تَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ، وَيَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِكَسْبِهَا لَا بِرَقَبَتِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الْبَيْعَ لِمَا ذَكَرْنَا وَتَسْعَى فِي دُيُونِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَيْهَا لَا فِي رَقَبَتِهَا، وَأَرْشُ جِنَايَتِهَا عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا، وَمِنْ الْأَرْشِ وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا قَدْرُ قِيمَتِهَا وَإِنْ كَثُرَتْ الْجِنَايَاتُ كَالْمُدَبَّرِ، وَيَجُوزُ إعْتَاقُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِعْجَالِ مَقْصُودِهَا وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى نِصْفَهَا يَعْتِقُ كُلُّهَا، وَكَذَا إذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ جَمِيعُهَا لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا ضَمِنَ لِشَرِيكِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَتْ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ، وَلَوْ مَاتَ عَنْ أُمِّ وَلَدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ عَتَقَ جَمِيعُهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الْمَوْتِ، وَيَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِي السِّعَايَةِ؛ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهَا السِّعَايَةُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْغَصْبُ وَالْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، إنَّهَا لَا تُضْمَنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا تُضْمَنُ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمُدَبَّرَةِ أَنَّهَا تُضْمَنُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ هَلْ هِيَ مُتَقَوَّمَةٌ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا مَالٌ أَمْ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ؟ عِنْدَهُ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوَّمَةٌ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا مُتَقَوَّمَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا نَفْسٌ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُدَبَّرَ مُتَقَوِّمٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ، وَرُبَّمَا تُلَقَّبُ الْمَسْأَلَةُ بِأَنَّ رِقَّ أُمِّ الْوَلَدِ هَلْ لَهُ قِيمَةٌ أَمْ لَا؟ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ: أَنَّهَا تُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا يُضْمَنُ الصَّبِيُّ الْحُرُّ إذَا غُصِبَ يَعْنِي إذَا مَاتَ عَنْ سَبَبٍ حَادِثٍ بِأَنْ عَقَرَهُ سَبْعٌ أَوْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى وَلَا شَكَّ، وَلِهَذَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَإِجَارَتُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَكِتَابَتُهَا، وَمِلْكُهُ فِيهَا مَعْصُومٌ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَهُ لَمْ يُوجِبْ زَوَالَ الْعِصْمَةِ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ وَالْإِعْتَاقِ وَالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَالْمُدَبَّرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ رِقَّهَا مُتَقَوِّمٌ: أَنَّ أُمَّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ تَخْرُجُ إلَى الْعَتَاقِ بِالسِّعَايَةِ، فَلَوْلَا أَنَّ مَالِيَّتَهَا مُتَقَوِّمَةٌ لَعَتَقَتْ مَجَّانًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى أَخْذُ السِّعَايَةِ بَدَلًا عَنْ مَالِيَّتِهَا، وَكَذَا يَجُوزُ لِلْمَوْلَى أَنْ يُكَاتِبَهَا، وَالِاعْتِيَاضُ إنَّمَا يَجُوزُ عَنْ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا تُضْمَنُ بِالْقَتْلِ بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ «قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَارِيَةَ لَمَّا وَلَدَتْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الِاسْتِمْتَاعَ وَالِاسْتِخْدَامَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا إجْمَاعَ فِي التَّقْوِيمِ، فَكَانَتْ حُرَّةً فِي حَقِّ التَّقْوِيمِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَكَذَا سَبَبُ الْعِتْقِ لِلْحَالِ مَوْجُودٌ وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الِاتِّحَادَ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ وَيَجْعَلهُمَا نَفْسًا وَاحِدَةً، فَقَضِيَّتُهُ ثُبُوتُ الْعِتْقِ لِلْحَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ سُقُوطِ التَّقَوُّمِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ السَّبَبُ وَهُوَ التَّدْبِيرُ أُضِيفَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَنْ دُبُرٍ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ سَبَبًا لِلْحَالِ لِضَرُورَةٍ ذَكَرْنَاهَا فِي بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَيَّدُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ فِي حُرْمَةِ الْبَيْعِ لَا فِي سُقُوطِ التَّقَوُّمِ، وَهَاهُنَا الْأَمْرُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ يَقْتَضِي الْحُكْمَ لِلْحَالِ، وَالتَّأْخِيرُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَالٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ وَلَا لِوَارِثٍ، وَلَوْ كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَالٌ لَثَبَتَ لِلْغَرِيمِ حَقٌّ فِيهَا وَلِلْوَارِثِ فِي ثُلُثِهَا، فَيَجِبُ أَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ كَالْمُدَبَّرِ، وَالسِّعَايَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ يَكُونُ بِقِيمَتِهِ، وَلَا قِيمَةَ لِأُمِّ الْوَلَدِ فَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهَا قَائِمٌ بَعْد الِاسْتِيلَادِ، وَالْعِصْمَةُ قَائِمَةٌ.
فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ وَالْعِصْمَةِ لَا يَقْتَضِي التَّقَوُّمَ كَمِلْكِ الْقِصَاصِ وَمِلْكِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْخَمْرِ وَجِلْدِ الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ فِي زَعْمِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ، فَإِذَا دَانُوا تَقْوِيمَهَا يُتْرَكُونَ وَذَلِكَ، وَلِذَلِكَ جُعِلَتْ خُمُورُهُمْ مُتَقَوِّمَةً كَذَا هَذَا، وَالثَّانِي: أَنَّ أُمَّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ تُجْعَلُ مُكَاتَبَةً لِلضَّرُورَةِ إذْ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِعِتْقِهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الذِّمِّيِّ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عَلَيْهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إبْقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ يَسْتَمْتِعُ بِهَا وَيَسْتَخْدِمُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِذْلَالِ بِالْمُسْلِمَةِ، وَلَا وَجْهَ إلَى دَفْعِ الْمَذَلَّةِ عَنْهَا بِالْبَيْعِ مِنْ الْمُسْلِمِ لِخُرُوجِهَا بِالِاسْتِيلَادِ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ، فَتُجْعَلَ مُكَاتَبَةً وَضَمَانُ الْكِتَابَةِ ضَمَانُ شَرْطٍ، وَلِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى كَوْنِ مَا يُقَابِلُهُ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ ثُمَّ إذَا سَعَتْ تَسْعَى وَهِيَ رَقِيقَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ تَسْعَى وَهِيَ حُرَّةٌ، وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الِاسْتِسْعَاءَ اسْتِذْلَالٌ بِهَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِي الْحُكْمِ بِعِتْقِهَا إبْطَالُ مِلْكِ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ، وَتَتَعَلَّقُ دُيُونُهُ بِذِمَّةِ الْمُفْلِسِ، وَمِلْكُهُ مَعْصُومٌ، وَالِاسْتِذْلَالُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَالِاسْتِخْدَامِ لَا فِي نَفْسِ الْمِلْكِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ أَمَةَ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ فَكَاتَبَهَا الْمَوْلَى لَا تُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ؟ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ الْكِتَابَةِ، وَإِنَّمَا ضُمِنَتْ بِالْقَتْلِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ ضَمَانُ الدَّمِ وَالنَّفْسِ، وَإِنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَذَلِكَ ضَمَانُ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْفَظْهَا حَتَّى هَلَكَتْ بِسَبَبِ حَادِثٍ، فَقَدْ تَسَبَّبَ لِقَتْلِهَا، وَتَجُوزُ كِتَابَتُهَا كَمَا يَجُوزُ إعْتَاقُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْجِيلِ الْعِتْقِ إلَيْهَا، وَلَا تُشْكِلُ الْكِتَابَةُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ، وَرِقُّ أُمِّ الْوَلَدِ لَا قِيمَةَ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ عِوَضًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْمُعَاوَضَةِ لَا تَقِفُ عَلَى كَوْنِ الْمُعَوَّضِ مَالًا أَصْلًا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُتَقَوِّمًا كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَتَقَتْ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَقَدْ مَاتَ مَوْلَاهَا.
وَأَمَّا الْعِتْقُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ بَطَلَتْ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَوَجَّهَتْ إلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الِاسْتِيلَادُ، وَالْكِتَابَةُ فَإِذَا ثَبَتَ الْعِتْقُ بِأَحَدِهِمَا بَطَلَ حُكْمُ الْآخَرِ، وَكَذَا يَجُوزُ إعْتَاقُهَا عَلَى مَالٍ وَبَيْعُهَا نَفْسَهَا حَتَّى إذَا قَبِلَتْ عَتَقَتْ وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ مِنْ بَابِ تَعْجِيلِ الْحُرِّيَّةِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَمِنْهَا عِتْقُهَا؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا كَانَ مُعَلَّقًا شَرْعًا بِمَوْتِ الْمَوْلَى لِمَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَيُّمَا رَجُلٍ وَلَدَتْ أَمَتُهُ مِنْهُ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ».
وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ وَلَدَتْ أُمُّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْعِتْقِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَتَعَطَّلَ الْحَدِيثُ، وَلِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَبَطَلَ السَّبَبُ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمَوْتُ الْحَقِيقِيُّ وَالْحُكْمِيُّ بِالرِّدَّةِ وَاللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ التَّدْبِيرِ.
وَكَذَا الْحَرْبِيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَاسْتُرِقَّ الْحَرْبِيُّ عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُدَبَّرِ، وَكَذَا يَعْتِقُ وَلَدُهَا الَّذِي لَيْسَ مِنْ مَوْلَاهَا إذْ سَرَتْ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ إلَيْهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ.
وَمِنْهَا أَنَّهَا تَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَلَا تَسْعَى لِلْوَارِثِ وَلَا لِلْغَرِيمِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أُمُّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَهِيَ حُرَّةٌ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ» وَهَذَا نَصٌّ، وَرَوَيْنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ الثُّلُثِ، وَلَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ وَلَا يُجْعَلْنَ فِي الثُّلُثِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «وَلَا يُجْعَلْنَ فِي الثُّلُثِ وَلَا يُسْتَسْعَيْنَ فِي دَيْنٍ»، وَفِي بَعْضِهَا «أَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ الثُّلُثِ وَلَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ» وَلِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ حُرِّيَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ هُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَالنَّسَبُ لَا تُجَامِعُهُ السِّعَايَةُ، كَذَا حُرِّيَّةُ الِاسْتِيلَادِ وَمِنْهَا أَنَّ وَلَاءَهَا لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْهُ لِمَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الِاسْتِيلَادُ.
فَظُهُورُهُ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى، ثُمَّ إنْ أَقَرَّ بِهِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ لَا تُهْمَةَ فِيهِ فَيَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَهَا فِي الصِّحَّةِ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ أَيْضًا وَتَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إذَا مَاتَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَلَدِ مَعَهَا دَلِيلُ الِاسْتِيلَادِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ، وَلِأَنَّ التَّسَبُّبَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَتَصَرُّفُ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةٌ أَصْلِيَّةٌ نَافِذٌ كَشِرَاءِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ عَتَقَتْ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ فِي حَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَنْفِي التُّهْمَةَ وَهُوَ الْوَلَدُ وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى التَّسَبُّبِ فَيَصِيرَ قَوْلُهُ: هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي كَقَوْلِهِ هَذِهِ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِي فَتَعْتِقُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ الثُّلُثِ.